الاثنين، أغسطس 22، 2011

المصرى اليوم | الشحّات.. وخرابُ مصر


بقلم فاطمة ناعوت ٢٢/ ٨/ ٢٠١١
أعلم أنها لحظةٌ عابرة. مؤقتةٌ بإذن الله. سوف يذكرها كتابُ التاريخ بابتسامة مقتضبة، بوصفها لحظةً تقفُ عند نهاية مرحلة معتمة «خايبة» من تاريخ مصر، وبداية عصر ممتد من الإشراق والتنوير.
لكننا، على ذلك، نود أن نعبر هذه اللحظة الحرجة بأقل خسائر ممكنة اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، وبعدد (صفر) من الخسائر فيما يخصُّ إرثنا العظيم الذى حيّر العلماء ودوّخ البشرية. ذلك الميراث الذى جعل العالم، بعد مرور خمسين قرنًا، يلهث وراء مكاتب الطيران ليحظى بزيارة إلى أرض الفراعين الذين أهدوا البشرية كنزًا يفوق الخيال فرادةً وعبقرية وتحضّرًا وجمالاً واكتمالاً!
فمصرُ الطيبة قد تسامح فى كل ما يمرُّ بها من أهوال وخسائر، لكنها لن تسامح فى ضياع قطعة واحدة من كنزها الثمين الذى حافظتْ عليه قرونًا من أجل البشرية، ومن أجل أن يشبَّ أطفالُها المصريون، جيلاً وراء جيل، وعيونُهم مفتوحة على مجد أجدادهم.
هذه المقدمة العاصفة لابد منها لأعبر عن «اشمئزازى» من تصريح المتحدث باسم الدعوة السلفية، السيد عبد المنعم الشحّات، بوجوب تشويه وجوه تماثيل مصر بطبقة من الشمع لأن الحضارة الفرعونية حضارة «عفنة»، حسب قوله!!!
وأعتذر عن اللفظ الركيك الذى ينتمى لمعجمه، أكثر مما يمسُّ حضارةً عظمى انحنت أمامها جباهُ العالم، وأجبرت العلماء على تدشين عِلم خاص يحمل اسم بلادنا دونًا عن بلاد الدنيا هو: علم «المصريات» Egyptology. وما إن نطق السلفىُّ بتصريحه المشؤوم حتى قام بعض التعساء بتحقيق «أوامره»، وشرعوا يهدمون التماثيل فى كرداسة!
ويعيد هذا إلى أذهاننا واقعةَ تحطيم تمثال بوذا على يد طالبان، وواقعة قصف أنف أبى الهول فى مصر سنة ٧٨٠ هجرية، على يد سلفىّ متطرف آخر هو «محمد صائم الدهر»، بدعوى أنه صنم واجب تحطيمه! ولم ينقذ أبا الهول العظيم إلا عاصفةٌ ترابية عنيفة هبّت فجأة، بعد جدع الأنف، جعلت فرائص الرجل ترتعد فولّى الأدبار، وقد ظن أن لعنة الفراعنة قد حلّت!
غضب مثقفو مصر المستنيرون من تصريح الشحّات، فقال إنه مجرد رأى وليست فتوى واجبة النفاذ!! فهل نسى أن «الحرف يقتل»، كما جاء فى المسيحية؟!
هل نسى أن «كلمةً» غير مسؤولة تشبه تلك التى قالها قتلت فرج فودة وطعنت نجيب محفوظ؟
وهل نسى أن كلمة عابثة كتلك شحنت فتاة منتقبة فحملت مِعْولاً وحطمت تماثيل النحات المصرى العالمى حسن حشمت؟ وها هى كلمته «العابرة» تلك جعلت شركات السياحة الأجنبية تلغى حجوزاتها لزيارة مصر! فهل سيكفّر السيد عن كلمته الكلمة العابرة بدفع التعويض المادى لأبناء مصر عن هذه الخسائر؟ أقول فقط: «التعويض المادى»، لأنه لا قِبل له بدفع التعويض الأدبى والمعنوى لمصر وأبنائها بنعته حضارة أجدادنا بما لا يليق.
الشحات يتبرأ من الأجداد لأنهم لم يعتنقوا الإسلام! لماذا لم تجد كاهنًا يكفّر الفراعنة لأنهم لا يؤمنون بالمسيح؟ لأن التكفير اختراعنا الحصرى! عجيبٌ خلطُ الأوراق ومحاسبة الفنىّ والحضارى بمقصلة الدين! وهى مقصلةٌ، لو تعلمون، نسبيةٌ. فما أؤمن به أنا يكفر به سواى، والعكس صحيح. هل تجوز المحاكمةُ بأثر رجعى لحضارة سبقت أقدم الديانات السماوية بثلاثين قرنًا!
هل قرأ الشحات كتاب «العبور إلى النهار»، الشهير بكتاب الموتى، ليعرف أن جوهر الديانات الثلاثة موجودٌ بين دفتى هذا الكتاب العظيم، وأن أجدادنا، الذين يتبرأ منهم الآن، والأحق أنهم يتبرأون منه، قد اجتهدوا ووصلوا إلى جوهر الله الواحد، ورسموا تصورًا محترمًا عن طبيعة الحساب والعقاب والنعيم والجحيم، ووضعوا معايير الفضيلة التى تهيئ الإنسانَ للمثول أمام الذات العليا، وصلوا إلى ذلك قبل الرسالات وقبل الرسل.
بدلا من محاكمة شبابنا الثائر النبيل، أطالب المجلس العسكرى بمحاكمة أولئك الذين يعملون بدأب على تقويض إرث البشرية وتشويه تاريخ أجدادى، لصالح دول أخفق تاريخُها فى صناعة حضارة، رغم الثراء ورغم النفط، وتعمل الآن على وأد حضارة المتحضّرين، مثلما تعمل على تقويض ثورتنا الشريفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق